دكتور عثمان محمد غانم: ” البراغماتية الصينية فى سوريا الجديدة وآفاق العلاقات المستقبلية بين البلدين”

مع اندلاع الثورة السورية في مارس 2011، تبنت الصين موقفًا معارضًا لتغيير نظام الأسد في دمشق، وذلك كسياسة دولية تنهجها الصين في التعامل مع حكومات الأمر الواقع بهدف استمرار مصالحها في سوريا دون أي قيود أو تهديدات. وعلى الرغم من أن الصين لم تتدخل عسكريًا كما فعلت روسيا وإيران، إلا أنها قدمت دعمًا دبلوماسيًا ورمزيًا للنظام السوري ,وتحت شعار الدفاع عن سيادة سوريا، انضمت بكين إلى موسكو في استخدام الفيتو في مجلس الأمن الدولي عشر مرات خلال الثلاثة عشر عامًا الماضية، كما دعت مرارًا إلى رفع العقوبات الأحادية الجانب وأكدت على ضرورة إيجاد حل سياسي للأزمة السورية ورفض التدخلات العسكرية. وقد اعتمدت الصين هذا الموقف إيمانًا منها بأن انهيار نظام الأسد قد يفتح الباب باتجاه حالات من عدم اليقين، ما يشكل تهديدًا للأمن الإقليمي ويمس المصالح الصينية في الشرق الأوسط.
كما شككت الصين في نوايا الغرب للإطاحة الأسد، معتبرة أن أي تغيير قسري قد يؤدي إلى تكرار سيناريوهات التدخل العسكري الغربي الفوضوي كما حدث في العراق وليبيا، وأن مثل هذه الحملات قد تزعزع الاستقرار وتخلق مشاكل أكبر من تلك التي تحاول حلها. لذلك عندما زار وزير الخارجية الصيني Wang Yi سوريا بعد فوز بشار الأسد بولاية رئاسية رابعة في عام 2021، دعا إلى التخلي عن فكرة تغيير النظام في دمشق. وفي عام 2023،زار الرئيس السوري المخلوع الصين وعقد محادثات تم خلالها الاتفاق على رفع مستوى العلاقات بين البلدين إلى شراكة استراتيجية والتي جاءت بعد 21 شهرًا من انضمام سوريا إلى مبادرة الحزام والطريق,لكن لم تشهد العلاقات الاقتصادية الثنائية نموًا كبيرًا.
موقف الصين من سقوط نظام بشار الأسد.
يعكس ظهور نظام سياسي جديد في سوريا تغييرات جيوسياسية عميقة تستدعي استجابة إقليمية ودولية مدروسة. وفي ظل هذه التطورات تجد الصين فرصًا لتعزيز وجودها الاستراتيجي، إلا أنه في الوقت نفسه تواجه تحديات جسيمة تستوجب تبني سياسات دقيقة. وبمجرد تشكيل النظام السوري الجديد، اتبعت الصين نهج الانتظار والترقب بحذر لمراقبة التطورات في سوريا وتحديد معالم علاقاتها المستقبلية مع سوريا بعد سقوط نظام الأسد . لذلك عقب السقوط أكد وزير الخارجية الصيني موقف بكين الداعم لتحقيق السلام في سوريا، مشددًا على أهمية تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 والمضي قدمًا في العملية السياسية. كما دعا إلى إعداد خطة شاملة لإعادة الإعمار تلبي تطلعات الشعب السوري من خلال حوار وطني شامل، مع التأكيد على ضرورة محاربة الإرهاب والتطرف بجميع أشكاله.بالإضافة إلى ذلك، جددت الصين دعوتها لرفع العقوبات الأحادية الجانب المفروضة على سوريا، معتبرة أن ذلك ضروري لدعم استقرار البلاد وتعزيز جهودها التنموية في ظل التحديات المتنامية التي تواجه المنطقة.
الرؤية الصينية وتنافضاتها في ضوءالتحولات الأخيرة في المشهد السياسي السوري.
نتيجة للتغيرات السياسية والأمنية غير المسبوقة في سوريا الجديدة، تجد الصين نفسها أمام واقع معقد يستدعي إعادة تقييم استراتيجياتها في المنطقة. ورغم التزام بكين بمبدأ عدم التدخل واحترام سيادة الدول، إلا أن التطورات الراهنة في سوريا تفرض عليها تحديات أمنية واقتصادية وسياسية تتجاوز تلك المبادئ المعتادة. وفي هذا السياق، لذلك يمكن تلخيص أهداف الصين تجاه سوريا الجديدة في النقاط التالية:
1. تسعى بكين إلى تأمين موطئ قدم في سوريا بعد استقرار الأوضاع، حيث هناك رغبة صينية في المشاركة في عملية إعادة الإعمار،إضافةً إلى ذلك تسعى بكين لاستثمار مواردها في موانئ طرطوس واللاذقية وتهتم بمشروع الربط السككي بين إيران والعراق وسوريا، بهدف ربطه بمبادرة الحزام والطريق.
2. تواجه بكين تحديات مرتبطة بالتنافس مع الولايات المتحدة في المنطقة، ففي بداية إدارة بايدن، عززت الصين انخراطها في النزاعات الشرق أوسطية بحذر، سواءً من خلال التوسط بين السعودية وإيران أو التقريب بين سوريا والدول العربية أو حتى استقبال فصائل فلسطينية في بكين. إلا أن الجانب الصيني يدرك تعدد اللاعبين في المنطقة ولا يرغب في الغوص في مستنقع الصراعات، معتبرًا أن الولايات المتحدة ما زالت القوة المهيمنة مما قد يؤدي إلى تقليل التعاون مع بكين ومحاصرة النفوذ الصيني .
3. تواجه الصين تحديات أمنية جديدة بعد تشكل نظام حكم سوري جديد ،حيث كان هناك محادثات رفيعة المستوى مع نظام االأسد البائد لتبادل المعلومات الاستخباراتية منذ عام 2016. وهنا تخشى الصين من توقف التعاون الاستخباراتي، مما يستدعي منها إعادة التفكير في استراتيجياتها الأمنية الإقليمية وتعزيز علاقاتها مع النظام السوري الجديد والدول المجاورة .
الخطوات المتوقعة مستقبلا من الجانب الصيني تجاه سوريا الجديدة.
لطالما دعت الصين إلى الحوار السياسي كآلية أساسية لحل النزاعات ورفضت التدخل العسكري الخارجي، مما أكسبها تقديرًا واسعًا على المستويين الشعبي والدولي. ومع ظهور النظام السوري الجديد بقيادة الرئيس أحمد الشرع، بات بإمكان الصين الاستفادة من هذه السمعة لتعزيز دورها في دعم شرعية النظام السوري الجديد على الساحة الدولية وإعادة سوريا إلى موقعها المناسب في النظامين الإقليمي والدولي. ومن المتوقع أن تسعى بكين إلى تعميق العلاقات الثنائية ، والعمل على تعزيز الاعتراف الدولي بشرعيته من خلال دعم المبادرات الدولية، خاصةً في الأمم المتحدة والمنصات المتعددة الأطراف الأخرى، لتأمين الدعم اللازم لإعادة إعمار سوريا وتحقيق السلام. في الوقت ذاته، تواجه الصين تحديات معقدة تتعلق بتنافسها مع قوى إقليمية ودولية لها تأثير كبير على القضية السورية، مثل روسيا وتركيا ودول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. وتدرك بكين أن مثل هذه الديناميكيات تتطلب منها إعادة تقييم استراتيجياتها، إذ أصبح من الضروري الحفاظ على استقرار المنطقة، وحماية مصالحها الأمنية والاقتصادية.
كما تسعى الصين للحفاظ على قنوات الحوار المفتوحة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، لتجنب تحول الأزمة السورية إلى ساحة جديدة للمواجهة الجيوسياسية بين الشرق والغرب. وفي هذا السياق، تستطيع الصين من خلال التركيز على المصالح المشتركة، خاصة في مجالات مكافحة الإرهاب ومعالجة أزمة اللاجئين، حشد دعم دولي أوسع يخدم مصالحها الاستراتيجية. وفي حالة رفض الحكومات الغربية منح الشرعية الدولية اللازمة للحكومة السورية الجديدة، فمن المحتمل أن تستغل بكين الفجوات الناجمة عن التوترات بين دمشق والغرب بطرق تخدم مصالحها الخاصة.
بوجه عام، يمثل تشكيل النظام السوري الجديد فرصة غير مسبوقة للصين لتعزيز استراتيجيتها في الشرق الأوسط، رغم التحديات الجديدة التي تفرضها هذه التحولات على سياساتها الخارجية والأمنية. ومن خلال تعزيز التعاون متعدد الأطراف، وتقديم الدعم الاقتصادي، والدبلوماسية التنسيقية، وبناء القدرات، تستطيع الصين أن تلعب دورًا بنّاءً في إعادة إعمار سوريا، وتحقيق السلام والتنمية في المنطقة، وتوطيد مكانتها كقوة عالمية مسؤولة.