محمد عبد العزيز سريالي يعتصر ذاكرته المؤلمة…..رجل بألف معنى…

متابعة: وسيم عليا

من يشعر بالألم يكتب بالقلم ومن شغاف القلب تخرج الكلمات، لم أكن أتخيل أن المخرج محمد عبد العزيز لديه قصص مثلنا تشبه حياتنا وواقعنا بل على العكس تخيّل لي أنه في قصر من عاج و شخص صلب و حاد المزاج.
يعلم كم أحترمه ولكن لا يعلم أنني بكيت بحرقة من كلامه التي عصفت ذاكرته به، مخرج من قلب الألم ذلك الشاب الحالم الذي مردغته الأيام يمينًا و شمالًا بات اليوم واحدًا من أهم المخرجين الذي يحتضن بأعماقه حب الكاميرا.
المخرج الاستثنائي الذي قابل الراحل هيثم حقي أصبح زميلًا له فيما بعد، وإليكم ما كتب المخرج محمد عبد العزيز عبر صفحته الشخصية على فيسبوك و عنون ذلك بإسم “كومبارس متكلم”.
عام ٢٠٠٠ كنت مفلساً لا أملك سوى نصف ليرة سورية… كنت جائعا ولم يكن في غرفتي بمنطقة العباسيين سوى بعض الماء المالح من بقايا الجبنة لم يبق في المنزل حتى الملح في الليل خرجت إلى الشارع بحثت عن شيء يؤكل فلم أجد وبعد جولة تفقدية ثانية وجدت نصف حبة كوسا “مفعوسة” نظرت حولي وعندما لم أجد أحداً أخذتها وعدت للمنزل… قطعت حبة الكوسا ووضعتها مع ماء الجبنة وأوقدت النار تحتها… انتبهت أن الهاتف سجل بغيابي مكالمة فائتة عندما ضغطت الزر جاء الصوت وكأنه صوت ملاك الخلاص : مساء الخير محمد أنا هيثم حقي قريت نص فيلمك بكرا الصبح ع العشرة مر لعندي بالمزة… لم أصدق أذني أعدت التسجيل عشرات المرات نعم هو صوت المخرج الكبير هيثم حقي… أطفأت النار وتناولت قطعة من الكوسا المسلوقة بماء الجبنة ولكم أن تتخيلوا مذاقها كان المذاق بسوء لا يوصف ومع ذلك تناولت طعامي الحلمنتيشي بسعادة وشهية وأنا أستعيد كلام الأستاذ هيثم واحلل رسالته الصوتية واستشف من نبرته بوادر اتفاق قادم وبعد أن أستنتجت مغزى الرسالة وماسيترتب عليها من فتح آفاق جديدة امامي وأعدت تصوراتي حول ذلك مئات المرات تمددت على السرير وأنا أحلم بتوقيع عقد بيع نص الفيلم للمخرج الكبير ولا بد أن المبلغ المالي سيكون محترما سيفك أزمتي المالية الخانقة ويفيض عن حاجتي … في الصباح الباكر استيقظت بمعنويات عالية لم يكن هناك شيء لأشربه كانت ماتزال هناك بقايا الماء المالح بطعم الكوسا شربتها على مضض وتحممت بسائل الجلي ذو اللون الأخضر إذ لم يكن هناك شامبو أو نثرة صابون في المنزل ولا مال لشرائهما لذا اقتصر استخدامي على سائل الجلي ” لودالين ” ذو الرائحة الكبريتية الفواحة التي يفترض أ٫ تكون رائحة الليمون الأخضر !… ارتديت ملابسي واعدت الحوار برأسي مع الأستاذ هيثم أكثر من مرة علي أولا أن أظهر الجانب الثقافي بشخصيتي ليدرك مدى تعمقي واشتغالي وغوصي في هذا الحقل ويجب أن أمرر له أنني من مناصري الماركسية الجديدة وسأذكر له جورج لوكاش ونظريته عن التشيؤ والوعي الطبقي ولإثبات رؤيتي الفنية والفكرية عبر النص الذي قدمته إليه عن طريق المخرج عبد الغني بلاط “معلمي الأول” علي الاستناد إلى ثيودور فيزنغراد أدورنو وماكس هوركهايمر كنت مغرماً بهما في ذاك الوقت حيث اشتركا في كتابة واحدة من أهم أعمالهما المصنفة ضمن اتجاه المثقفین الأوروبیین التقدمي في نقد الحداثة قبل ظهور“ ما بعد الحداثة”، والتي أصبحت من“ الاتجاهات ”الثقافیة. كتب الاثنان“ جدلیة التنویر ”بینما كانا منفیین أثناء الحرب نتيجة لها. یعتقد هوركهایمر وثيودور أدورنو أن المجتمع والثقافة یشكلان وحدة تاریخیة، بحیث أي سعي خلف الحریة في المجتمع هو بالضرورة سعي خلف التنویر في الثقافة. یوجد جانب آخر لذلك هو النفي. بحیث أي فقدان أو نقص في الحریة المجتمعیة، في الجوانب السیاسیة والاقتصادیة والبنى القانونیة المعاش داخلها؛ تعطي مؤشر لفشل كبیر في التنویر الثقافي، الجوانب الفلسفیة، في الفنون والدین وما نحوه وإضافة لذلك يجب أن أناقشه بندية بالسعر الذي سأحصل عليه وحددت في ذهني مبلغا وقدره ٢٥٠٠٠ل س كسعر إجمالي للنص يدفع لي بموجب الاتفاق ٣٠٠٠ ليرة سورية اليوم قبل الغد .. ثم قلت لنفسي لماذا لا اطلب ٥٠٠٠ – لا لا حسنا يا محمد ثلاثة الألف جيدة في الوقت الحالي لا تكن طماعاً ٣٠٠٠ لا بأس بل مبلغ جيد ألف وخمسمائة أجرة الغرفة سبعمئة تسد بها ديون البقال والباقي للطعام والتنقلات.. وللذهاب إلى الموعد كان لدي خياران لا ثالث لهما باعتباري لم أكن أملك سوى ليرتين بجيبي إما أن اذهب مشيا على الأقدام من حي يقع خلف ملعب العباسيين تجاه جوبر إلى المزة حيث مكتب وسكن الأستاذ هيثم وهي مسافة طويلة جدا أو أن اذهب بالحافلة (نقل داخلي)وفي حال لم أحصل على السلفة لن يكون أمامي سوى العودة مشيا للمنزل وبالطبع اخترت الذهاب بالحافلة لسببين أولاً لأنني ضامن قبض السلفة فصوته عبر رسالة الانسرماشين يشي بأنه سيأخذ النص ويدفع لي وثانيا أن أصل ويشم رائحة سائل الجلي مني أفضل من رائحة العرق الذي سأغرق نفسي به إذا ذهبت للقائه سيرا على الأقدام عبر كل تلك المسافة التي تفصلني عنه … خرجت إلى الشارع العام وصعدت باص مزة جوبر أوتوستراد واعدت في ذهني مايجب قوله للمخرج الكبير وترك اثر طيب لديه واخيرا وصلت في الموعد المحدد استقبلني الأستاذ هيثم بلباقته المشهود لها وجلس وكان خلفه نافذة كبيرة تسرب من خلالها حزمة ضوئية من شمس ربيع ذاك العام فبدى لي الأستاذ هيثم بوقاره ونبرته الرخيمة كقديس بل ككارل ماركس او هكذا كنت اود ان اراه ففي تلك المرحلة كان اسمي الحركي ماركس وقليلين كانوا يعرفون بان اسمي الحقيقي محمد وكان الأستاذ هيثم رمزا للفن الجاد والتقدمي وصاحب مشروع فكري ومعرفي وبالنسبة لليافعين الذين من امثالي القادمين من النضال السري مع حركات التحرر والتيارات الفكرية المتمردة كان حقي يعتبر مثلا اعلى يحتذى به لذا فرصة اللقاء به وفوق ذلك مشاركته بمشروع فني يعتبر حلما ذهبيا لأي شاب طموح ونزيه يعتبر الحقل الأبداعي منطلقاً للتعبير عن مكنوناته والتحيز لقيم الجمال والحرية وقول ما لايقال … ارتشفت بلذة قهوتي وكنت اتفرس بالمكان الذي يترك في النفس الأثر الطيب ويشي بإن القادم سيكون في غاية البهاء كنت ارتشف القهوة واعيد ماكررته بذهني مراراً وتكراراً بتسلسل منهجي وهذه كانت عادة الناشطين بالمجال السري الذي كنت جزءا منه ذاك الحين انتهيت من قهوتي بينما كان الأستاذ هيثم يعطي تعليماته لفريق الإنتاج وأخيرا تفرغ لي وبقينا لوحدنا أعاد الترحيب بي وقال بانه قرأ النص واعجبه وذكر لي مشهدين على وجه التحديد من النص مشهد الملابس المنشورة على الحبال عند جسر الرئيس ومشهد الأسماك في حي باب توما وقال بان لدي مخيلة خصبة وأسلوبا مختلفا عن المعتاد والسائد وكلما اطنب في حديثه تعرقت يداي من الخجل وتلعثم لساني وفجأة وكأنني اصبت بدوار او بشلل كل شيء فكرت به واعددته اعدداً منمقا منذ ليلة البارحة وصباح اليوم تبخر من رأسي واقتصر حديثي على: اممم… شكرا أستاذ… هاده شرف وكنت اريد استحضار أي شيء لمشاركته رؤيتي ولكن عبثا كنت اشم رائحة سائل الجلي الأخضر الذي تحممت به صباحا وكنت جائعا ومفلساً ورأسي مليء بالفلسفة والايدولوجيات والنظريات والتي لاقيمة لها في مثل هذه الجلسات وعند ذلك تشعر بأنك ورقة في مهب الريح واضف لكل ذلك فأنا شخص انطوائي جدا الى حد العزلة الشديدة (حتى الآن) وقلما اجتمع بالأصدقاء والمعارف وتواصلي الاجتماعي تحت الصفر والعزاء لتعلثمي ذاك كان بإحساسي بأنها خطوة عظيمة لتبني مشروعي الأول من قبل مخرج فذ مثله والحصول على السلفة حتى أخرج من تلك الحفرة السوداء…وبعد القاءه الضوء على بعض الفجوات التي تتخلل النص قالها الأستاذ هيثم: نصك سريالي محمد وأنت غارق بالسريالية بس عجبني شغلك إذا عندك نص واقعي ابعتلي ياه ثم شجعني على المتابعة وودعني بدماثته المعهودة.. (يبدو ان الغاية من هذه الجلسة هو تشجيعي واللقاء بي وهي لفتة نبيلة منه) .. خرجت إلى الشارع وأنا أفكر بكلامه وبالليرتين اللتين لم تعودا بحوزتي والآن ماذا هل أعود إليه واشرح له نظريتي الحداثوية حول الفن وإثبات أن الواقع أكثر سريالية من المتخيل وأطلب منه سلفة… سلفة عن ماذا… النص سريالي واستاذ هيثم جل مشاريعه واقعية اذا ليس امامي سوى العودة سيرا على الاقدام الى المنزل ..اللعنة على هوركهايمر ..كل هذا مُصمَّم ليجعلنا صغاراً خائري القوى كثيري الأنين ..سرت على غير هدى… لم اكن املك شيئاً سوى ملابسي وحذائي وبعض الكتب حتى ماء الجبنة المالحة شربتها صباحاومعي شعوري العميق بعدم الأمان لأنك لا تمتلك شيئاً ينتابك ايضاً شعور جليل بالحرية .. سرت دون توقف حتى ساحة الامويين… كنت جائعا ومنهكا عند الزاوية حيث الشارع الصاعد الى الجمارك بجانب مبنى التلفزيون احدهم كان قد ترك نصف “عرنوس” من الذرة المسلوقة… نظرت حولي ثم اقتربت من العرنوس حملته باصبعين وتظاهرت بانني سارميه بسلة قمامة (كرامتي غالية هههه) كنت محرجا وكأن كل سكان دمشق يؤمون باصبعهم تجاهي ضاحكين… سرت الى حيث بداية نهر بردى عند بناء دار الاوبرا بعض حبات العرنوس التي كانت ماتزال عليها اثار الاسنان الذي تناولها قبلي تخلصت منها تأكدت من ان لا أحد يراقبني وبدأت بتناول العرنوس وانا اسير عند ضفة بردى… سد رمقي تلك الحبات القليلة المتلبدة وعندما انتهيت منها بعد ان هرشتها هرشا رميتها الى مجرى النهر وتابعت سيري حتى جسر الرئيس وهناك توقفت وتذكرت كلام الأستاذ هيثم عن المشهد الذي اثار اعجابه نظرت الى اعلى الجسر حيث الحبال ستعقد من هناك وتمتد إلى الميريديان وتنشر فوقها الآلاف من قطع الملابس يالها من دلالة ويالها من مشهدية بصرية ثم قررت الذهاب الى باب توما حيث المشهد الآخر الذي اعجب الأستاذ هيثم تابعت سيري حتى ساحة المرجة ومن السنجقدار الى نهاية شارع الحجاز ثم ادلفت الى سوق الحميدية واجتزته نحو الجامع الاموي فالسوق الاثري الى حي القيمرية ثم الى باب توما حيث المشهد الكبير اسماك المسيح المعلقة هناك معلقة والشخصية الرئيسية تمسك بسمكة مقطوعة الرأس وتشاهد الشاب الذي اثار انتباهها يغادر بعد ان تخيلت ذاك المشهد وملئت كياني به واسترحت بما فيه الكفاية قررت ان اصبح مخرجاً وكانت هذه المرة الثانية التي خطر ببالي هذا الخاطر … توجهت نحو مطلع شارع باب توما التجاري الذي يفضي نهايته لساحة العباسين قبل ان اغادرعند منتصف ساحة باب توما جاءني صوت أم سمير… وكانت تتعهد تأمين الكومبارس للأعمال الفنية .. اومأت من النافذة ان اصعد اليها كان درج منزلها ذي الطراز الدمشقي القديم من الخشب الذي مرت عليه السنون وعند كل درجة كان يخيل اليك انه سينهار بك الدرج والمنزل حييتها وجلست عند اقرب كرسي قدمت لي فنجانا من القهوة وقالت لي: عندي اليوم تصوير بالليل تطلع معي كومبارس متكلم بعطيك تلاتميت ليرة وعندما غمغمت وفهمت هي رفضي قالت قبل ان اغادر اذا قررت تجي التجمع عندي الساعة ستة المسا بدنا نروح مشي التصوير بقصر العظم (وربما ببيت نظام لم اعد اذكر) ودعتها ونزلت الدرج وكانت هناك بعض قطع الخبز اليابس نشرتها ام سمير على حافته نظرت خلفي كانت مشغولة أخذت قطعة واكملت سيري وانا أقول لنفسي كومبارس متكلم هه هاده كان ناقصني وصلت اخيرا الى ساحة العباسيين وقد انهكت من السير راجلا ولم تكن امامي أي بارقة امل ولا طعام سوى قطعة الخبز اليابس التي أخذتها منذ قليل وصلت لغرفتي خائر القوى خلعت حذائي كانت قدماي تؤلمانني ولا ملح حتى لنقعهما غسلتهما بسائل الجلي الأخضر وتمددت كالميت بعد فترة قمت وفتشت الهاتف ربما تكون هناك رسالة من الأستاذ هيثم وقد تراجع عن قراره بعدم تملك النص السريالي ولكن لاشيء فأعدت الاستماع لرسالته السابقة وكنت احلل نبرته وطريقة كلامه وكان يتضح لي بإنه مزعم على تبني النص ثم قرعت نفسي لأني لم ادافع عن رؤيتي واقناعه بتبني المشروع ذي التوجه الحداثوي وهنا توارد الى ذهني الكثير من الكلام والحجج المقنعة حول النص والحداثة والإحالات التي يتضمنه المشروع المغلف بالمعاني الباطنية الى ما هنالك من هواجس كانت تتخبط بها ذاتي في تلك المرحلة ولكن ما الفائدة الآن من هذه الحجج المقنعة .. قمت وبحثت عن أي شيء يؤكل مع قطعة الخبز اليابس ولكن عبث لاشيء ثم عثرت على خمس قناني بيرة فارغة تحت المجلى وحينها عندما كنت تعيد القنينة للبائع تأخذ مقابلها ليرة… وضعت القناني في كيس وتوجهت الى أبو موريس العجوز بائع المشروبات الروحية وبعد تلبك وخجل وتلكوء حتى شعرت بانني واحد من الشخصيات الهاربة من الأدب الروسي اعدت لابو موريس القناني واخذت منه خمس ليرات ابتعت صندويشة فلافل ملئت بها بطني وعدت للمنزل الخاوي..الخاوي من أي شيء سوى من بعض الكتب أو ما تبقى لي من كتب التي بعتها فيما سبق لحاجتي للمال وكم كان مؤلما منظر تلك الكتب وهي تحمل بعيدا عني لأشتري بثمنها الطعام أو لسد شؤوني عندما تذكرت ذلك اعتراني شعور جارف بالحزن أتذكر بانني اخذت كتاب الابله الجزء الأول وقرأت فيه ماتيسر للمرة الثانية … ثم تذكرت عرض ام سمير… ثلاثمئة ليرة مقابل أداء دور كومبارس متكلم وبين الرفض والقبول ومن ثم التبرم فإعادة الحسابات عما سأتناول غدا وكيف سأتنقل وليس أمامي اية فرصة سوى بيع ما تبقى من الكتب التي لن تسد ثمنها حاجتي لمدة يومين وجدت نفسي مساءً عند منزل ام سمير في ساحة باب توما مع مجموعة مؤلفة من ثلاثون شخصا تقريبا من الكومبارس باعمار مختلفة.. برفقة ام سمير سرنا مشيا الى حيث موقع التصوير وليكن قصر العظم وبعد ان البسونا الثياب المناسبة اكتشفت ان الدور الذي ساقوم به هو كرسون او نادل في حفلة يحمل صينية بقلاوة ويوزعها على البشوات وكل ماعلي قوله هو اهلا وسهلا… تفضلو… تفضلو الخ بكل الأحوال هونت على نفسي الأمر فلم يكن لدي أي نية لأصبح ممثلا لم يكن هذا مهما المهم ان احصل على المبلغ واعود الى المنزل وبجيبي مصروف شيء من الأيام المقبلة ..ولكنني صعقت عندما عرفت قبل تصوير المشهد بقليل ان المخرج هو هيثم حقي!! يا لحظي العاثر… يا للقدر… ذهبت إلى أم سمير وقلت لها أريد أن أتراجع وأعود للمنزل فرفضت وقالت حرام مية واحد بيتمنى يشيل صينية الحلو عنك والمسلسل لهيثم حقي وهو مشهد واحد ما في غيرو واليوم آخر يوم تصوير بالمسلسل بالمسلسل وبالفعل فالتصوير كان عبارة عن حفلة في آخر يوم تصوير لمسلسل الأيام المتمردة… عدت وأنا أضرب أخماسا بأسداس ماذا سأفعل وكيف سيكون موقفي يا للحرج صباحا كنت أرتشف معه القهوة كصاحب مشروع سينمائي والآن مجرد كومبارس أمام كاميرته… كدت أذوب بملابسي من الحرج أن الأقدار تضعك أحيانا في موقع لا يحسد عليه لو ما جرى شاهدته بفيلم هندي لاعتبرته أمراً في غاية المبالغة ما هذا القدر الذي يمتحنني الآن… كنت قلقا ومحرجا ولم أستطع أن أغادر كنت بحاجة للمال… حان وقت التصوير وضعوا الصينية المليئة بالحلوى في يدي يا إلهي ما هذا حتى قبل ساعات قليلة كنت أتضور جوعا والآن صينية من البقلاوة والهريسة احملها بين يدي كانت نفسي عزيزة لم أتناول من تلك الصينية حتى قطعة واحدة… قبل البدء بالتصوير نظرت بطرف عيني إلى جهة الكونترول كان الأستاذ هيثم منشغلاً مع فريقه يجلس خلف المونيتور أدرت وجهي بسرعة حتى لا يراني يا للحرج يا إلهي يا رب الماركسيين ماذا فعلت لأوضع في هذا الموقف ما هذا المأزق الوجودي؟! وأخيرا المخرج المنفذ واعتقد كان الليث حجو أخبرني ماذا عليّ أن افعل متى وإلى أين يجب أن أتحرك… سمعت العد التنازلي كان قلبي يخفق بشدة ماذا لو رآني ودعاني إلى الكونترول وقال لي أمام الجميع: محمد ماذا تفعل هنا؟! ما قلتلي عم تشتغل كومبارس !! لا شك أنه سيغمى عليّ حينها من الحرج هكذا كنت أتخيل الموقف الذي وضعت نفسي فيه… الوقت يمر ثقيلاً كيف سأنجو من هذه الورطة المحرجة اللعنة على المال ولكن مؤلف كتاب رأس المال ذاته كان يعاني العوز والفاقة وكان قد خاطب فردريك أنجلس في احدى رسائله بإن العائلة منذ ثلاثة أيام لم يتناولوا سوى بضع حبات من البطاطا وإنه لم يعد يملك سوى معطفه لسد ديونه .. بدؤا التصوير وكان هناك من يغني والممثلون يقومون بأدوارهم حسب توجيهات المخرج .. دخلت بصينية الحلويات وأدرت وجهي عكس جهة الكاميرا بقليل حتى لا يراني الأستاذ هيثم ويتعرف عليّ وتوجهت إلى حيث الكومبارس الذي يفترض أنهم من علية القوم والمثير للضحك أن الكومبارس البروليتاري والجائع مثلي تخاطفوا صينية الحلوى بسرعة البرق وخرجت عندما افرغت الصينية من محتواها فقرعني مشرف الإكسسوار وربما الإنتاج لم أعد اذكر قائلا: كان لازم توزع الحلو شوي شوي لسه ماخلص المشهد – فقلت له: أستاذ البكوات كانوا جوعانين شو ساوي وعندما اكملو تصوير المشهد تأكدت بأن الأستاذ هيثم لم يعرفني أو لم يخطر بباله إن واحداً من الحضور المزدحم به المشهد هو نفسه الشاب الذي التقاه صباحاً فتنفست الصعداء ثم بموقف لن أنساه للسيدة الجليلة أم سمير التي سحبتني لزاوية من أرض ديار المنزل وأعطتني مبلغ ٧٠٠ ل س وقالت لي: روح ع البيت وشك مو هالوش شكرتها وذكرت لها بإنني أخذت قطعة الخبز اليابس من منزلها دون إذنها فلم تدرك مقصدي وعادت لعملها.. خرجت من موقع التصوير غير مصدق تنفست الهواء ملء صدري وبكيت بكيت كطفل صغير وأنا أعصر السبعمئة ليرة بين يدي عصرتها باكيا وكأنني اعصر الحياة برمتها عصرت تلك النقود متحسرا وحزينا وبعد ان افرغت تلك الشحنة العاطفية حول ما جرى معي من العبث الكوني .. عدت للمنزل تفقدت الهاتف وكانت هناك رسالة صوتية رسالة ممن كنت احب سماع صوتها في تلك الليلة سمعتها بما يكفي ونمت قرير العين والقلب … للسيدة أم سمير وللمخرج الكبير هيثم حقي للذي ترك نصف عرنوس من الذرة عند قارعة الطريق وللحياة بظلها الطويل عميق الشكر والامتنان.