“من هتافات الزعيم إلى دعوات السلام: ضرورة الوعي العربي في زمن التغيير”
في عالمنا العربي، لطالما اعتدنا على هتافات الحشود التي تملأ الساحات والشوارع: “بالروح بالدم نفديك يا زعيم”. كلمات قد تحمل في طياتها نية الوفاء والتضحية، لكنها أيضًا قد تكون سيفًا ذا حدين. ففي اللحظة التي يرفع فيها الشعب هذه الهتافات، يُفترض به أن يعي أن الساحة السياسية تتغير، والمصالح تتبدل، وأن الأوطان لا يجب أن تبنى على أشخاص مهما علا شأنهم. وإذا كانت بعض الأنظمة قد اعتادت على وجود “الزعيم” الذي لا يُمس، فإن الشعوب يجب أن تستيقظ لتفهم أن الدول لا تساوي الأشخاص، بل هي فكرة قائمة على العدالة والمساواة والسلام.
نحن نعيش في زمن تتسارع فيه المتغيرات السياسية والاقتصادية على مستوى العالم، ودولنا العربية للأسف لا تزال عالقة في دوامة من تبجيل الشخصيات السياسية، حيث يُعتبر الزعيم رمزًا للكرامة الوطنية ومصدر القوة في المجتمع. لكن الحقيقة المرة أن هذه الهتافات لا تعكس سوى ضعف في بناء مؤسسات حقيقية ذات استقلالية وفاعلية. في العالم المتطور، من أميركا إلى أوروبا، لا يعيش الشعب في انتظار قدوم الزعيم، بل تنتقل المسؤولية من رئيس إلى آخر عبر آليات ديمقراطية، حيث يتم التركيز على التنمية المؤسسية أكثر من الشخصيات القيادية. فالرئيس في هذه الدول يأتي ويذهب، لكن الدولة تستمر، ويظل الشعب هو المحرك الفعلي لمسار التطور.
إذا نظرنا إلى الدول المتقدمة، سنلاحظ أن الرؤساء لا يعاملون كآلهة أو رموز غير قابلة للتغيير. في الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، الرئيس المنتخب يقضي فترة ولايته ويرحل ليحل مكانه آخر، والمواطنون لا يضعون آمالهم في شخص واحد، بل في نظام متكامل من المؤسسات التي تضمن حقوقهم. الأمر نفسه ينطبق على الدول الأوروبية، حيث التركيز يكون على تعزيز الديمقراطية، احترام حقوق الإنسان، وتحقيق التوازن بين السلطة التنفيذية والهيئات التشريعية. هذه الثقافة تجعل الشعوب أكثر وعيًا بدورها في دفع عجلة التقدم والتنمية.
أما في الدول العربية، فتغيب هذه الثقافة المؤسسية، وتحل محلها ممارسات التقديس الشخصي، مما يسبب خللاً كبيرًا في استقرار المجتمعات. هتافات “بالروح بالدم” لا يمكن أن تبني دولة قوية، بل يمكن أن تضعفها إذا ما سُمح للأنظمة أن تبني سلطتها على التعلق المطلق بشخص واحد. وفي هذا السياق، يظهر الدور المهم الذي يجب أن تلعبه الشعوب في إحداث التغيير، فلا بد أن نفيق من هذا السبات العميق، وأن ندرك أن السلام لا يتحقق من خلال الهتافات بل عبر التعاون والعدالة الاجتماعية وبناء المؤسسات.
الأمة العربية بحاجة إلى أن تستيقظ من هتافات الماضي وتبحث عن مسار جديد، يكون فيه السلام الداخلي هو الهدف الأسمى. يجب على الحكومات أن تركز على تطوير أنظمتها السياسية وتعزيز الديمقراطية، وأن تضع حدًا للزعماء الذين يبقون في السلطة مدى الحياة. يجب أن يتم الانتقال من مفهوم “الزعيم” إلى مفهوم “الدولة” التي تقوم على مؤسسات قوية ومستقلة قادرة على تلبية احتياجات الشعب بعيدًا عن الشخصيات القيادية العابرة.
إن السلام بين شعوبنا هو الأساس لبناء مستقبل مزدهر، فبدون أن نترك وراءنا العبء المتمثل في عبادة الزعيم، سنظل نغرق في دوامة من الصراعات السياسية والتشويش الاجتماعي. نحن بحاجة إلى دولة قوية، لا تعتمد على شخص واحد، بل على نظام ديمقراطي يضمن حقوق الأفراد ويحقق العدالة. لنبني مجتمعًا عربيًا يعايش السلام الداخلي ويسعى إلى التطور بعيدًا عن الهتافات، ولنعمل معًا من أجل أن تكون شعوبنا في مصاف الدول المتقدمة، حيث يتبدل الرؤساء وتظل الدولة ثابتة قوية، بتقدمها وعراقتها.
الدكتور نضال العنداري